الرئيسية » مقالات » مقالاتي

غريزة الاستثناء ... عاطف إبراهيم صقر
غريزة الاستثناء
عاطف إبراهيم صقر
 
كم ندبتْ حظي لأن التفاحة لم تسقط على رأسي، فلو أنَّ ذلك حدث، إذاً لأصبحت عالماً كبيراً مشهوراً كإسحاق نيوتن، بل ربما كنت سأتجاوزه بكثير فيما لو سقطت على رأسي جوزة هند، أو جبسة مصرية مخطّطة، حمراء اللب على السكين! إيييه نيالو، ناس تقع على رؤوسهم فاكهة فيصبحون علماء، وناس تقع على رؤوسهم البلاوي الملونة فيصبحون ....؟ على كلّ حال لا أدري لماذا صفنتُ ذات يوم - عندما تراني المدام صافناً تقرأ المعوذات وتصلّي ركعتي استغفار- صفنتُ وفكّرتُ أنني يجب أن أبتكر نظريتي الخاصة، وأن أصبح عالماً أو فيلسوفاً أو شاعراً، أو حتى ناقداً على أقل تقدير! وعليه فقد جلست تحت أشجار التفاح والرمان والإجاص، والإكي دنيا، والبندورة القصبية، والباذنجان المهرمن على أمل أن تسقط على رأسي ثمرة واحدة من ثمارها لكن دون جدوى .. طال الانتظار وأخيراً جاء الفرج؛ فقد كنت أسير بأمان الله، وفجأة قُذِفَ من إحدى الشرفات كيس أسود ثقيل ذو رائحة مميزة! ليرتطم بيافوخي الأشمّ، وبدلاً من أن أصرخ من الألم، وبينما عيناي تغيمان، ونجوم الظهر تفتلُ بي، هتفت بفرح: وجدتها! أخيراً استطعتُ أن أفعِّل عمل دماغي، هه؛ إذا كانت تفاحة جعلت دماغ نيوتن يكتشف قوانين الجاذبية، فماذا تتوقعون أن يكون فعل كيس أسود ذو رائحة مميزة في دماغ صاحبكم؟ لن أحطَّها واطية، لن أخذلكم! بل سأبتكر نظريات أو تطبيقات على مستوى الحدث! وبما أن لكل قاعدة استثناء، فقد قفزتْ إلى مخيلتي على الفور مسألة الاستثناء، وتذكّرت تلك الطرفة التي يعرفها معظمكم؛ عن ذلك الرجل المصاب بالسكري والذي منعه الطبيب من تناول أي نوع من السكريات، لكنَّ المريض المدعوم ذهب من فوره إلى واسطته، وعاد باستثناء من الجهات العليا يسمح له بالتهام كيلوغرامي كنافة! أيضاً تذكّرت تلك الفرحة الغامرة التي تجتاح الناس عندما نخبر أحدهم أنه رجل استثنائي، أو نخبر إحداهن أن عينيها استثنائيتان، وشفتيها استثنائيتان، وخصرها استثنائي، و..... استثنائيان! تذكّرت الاستثناءات الواردة في الكتب والشرائع والقوانين؛ تذكّرت استثناءات المسابقات، واستثناءات التعيينات، واستثناءات الوظائف، واستثناءات الترقيات، واستثناءات العلاوات، واستثناءات العقوبات، واستثناءات الأسعار، واستثناءات الشقق السكنية، واستثناءات الطبليات، واستثناءات أماكن ركن السيارات، واستثناءات الدور، وحتى استثناءات باعة السندويش والفول والفتة والمخلل، تذكّرت استثناءات الاستثناءات! الآن وبعد تلك المقدمة المختصرَة المقنِعة! جاء دور الإبداع الناتج عن سقوط الكيس؛ أقول: إذا كان الكائن البشري مغرم بالاستثناءات إلى هذا الحد، إذا كان يحبُّ أن يكون مستثنى في أي مجال، سواء أكان ذلك المجال شكلانياً أو عملياً أو ترفيهياً، إذا كان يحبّ أن يكون مستثنى على أي مستوى كان، أليس في ذلك دلالة ما بعدها دلالة؟ أليس في ذلك قضية يمكن استنباطها ومعرفة مدلولاتها والبناء عليها؟ وبالانتقال من الخاص إلى العام، ومن الواقع إلى التجريد، إلى القضايا الكبرى أطرح سؤالي النقدي الاستثنائي!: ما هو سبب فشل أو نجاح أي مشروع من المشاريع التأسيسية الكبرى بأنواعها العقائدية أو اللاهوتية أو الميتافيزيقية أو الاقتصادية أو المجتمعية؟ إنه الاستثناء بالتأكيد! لنتأمل في مشروع تأسيسي براغماتي فيه الكثير من العدل والمساواة والإنسانية، لكنه إلى جانب ذلك يعطي فئة - لنسمِّها طبقة - من الناس استثناءات وميزات قيادية أو مادية أو معنوية خاصة، ولنلاحظ كيف أنه (أي المشروع) بأدبيَّاته وأسسه النظرية يرضي جميع الأطراف؛ فهو من جهة يمنح آمالاً متواضعة، لكنها آمال على أية حال، لطبقة الضعفاء، والعامة والجمهور، لكنّه من جهة أخرى يعطي طبقة الخاصَّة أي طبقة الكبار والأقوياء مادياً أو معنوياً، استثناءات خاصة تتماشى مع مطالبها ورغباتها وحتى نزواتها وغرائزها. ولنتأمل في مشروع آخر طوباوي يدعو للمساواة الحقيقية، وسيادة العدل والحق والقانون على الجميع دون أن يعطي أي استثناء لأية طبقة أو مجموعة، أو حتى أفراد! فكّروا في الأمر وقدِّروا في قرارة أنفسكم: هل يرغب البشر حقاً في أن يكونوا متساوين تماماً مع الآخرين؟ أم أنهم بشكل أو بآخر يفضِّلون أن يكون لديهم بعض الاستثناءات والميزات أو ربما الكثير منها؟ ألا يرتبط نجاح التطبيق الفعلي للقوانين والنظريات والإيديولوجيات بكمية استثناءاتها وكيفيتها ونوعيتها ووجهتها؟ أم أنه ليس لكل ذلك علاقة بالأمر، وأن نجاح أي مشروع إيديولوجي أو عقائدي أو اجتماعي أو اقتصادي أو... يرتبط فقط بحجم ووزن ورائحة الكيس الأسود الذي سقط على رأس صاحبه؟‏
الفئة: مقالاتي | أضاف: negative9558 (10-10-01) | الكاتب: negative9558 E
مشاهده: 894 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]