الرئيسية » مقالات » مقالاتي

الإبداع «كيمياء» زمن، أم «خيمياء» زمان؟..... نجم الدين السمان
الإبداع «كيمياء» زمن، أم «خيمياء» زمان؟..
 
نجم الدين السمان
 
كنت تلمّست منذ حكايات جدتي.. زمناً غير الذي نعيشه وعشناه.. زمناً يتواتر على نحوٍ عجائبي، يتداخل ويتفرق، يقفز من سيرورته أو.. يعود أدراجه، يتكوّر حول نفسه مثل شرنقة، ثمّ.. وخلافاً لكلّ ترسيمةً نعرفها.. يرفّ بجناحيه ويختفي.. حتى قبل أن تنتهي الحكاية!.
أستذكر الآن.. إصغائي الشديد لشفاه جدّتي،بينما عيناي معلقتان بـ«كبكوبة» خيطان متداخلةٍ على نحو ٍشائك ومستحيل، تشتريها جدتي من «البازار» لتعيد بعناد الكائن تخليص تشابكاتها، ما إن تنسل منها رأس خيط حتى تبدأ الحكاية، فإذا بها تضفر بمخرزها ما كان «كبكوبة» في تطريزاتٍ بديعةٍ ومبتكرة.. حكاية تلو.. حكاية، جيلاً بعد.. جيل.
لتوّي.. أدرك الآن، لماذا كانت تطريزاتها لا تتشابه رغم احتوائها على نفس العناصر.. أزهاراً ومثمنات، أوراق كرمةٍ وأغصاناً ودوائر!
ربما.. كانت كلّ قطعةٍ تشبه الحكاية التي ترويها فيما هي تطرّز، كانت لها تطريزات تشبه تأملاتها السريّة حين تكون صامتة ووحيدة!.
اكتشفت فيما بعد، وأنا أقرأ حكايات ألف ليلة والسير الشعبية، أن لها زمناً هو صنو الزمن الذي في حكايات جدتي.. أحدهما تجلَّى.. بالكتابة، وثانيهما تجلّى.. بالمشافهة.
هكذا.. أخذتني الدهشة من زمنٍ يمكن ابتكاره، غير ملموسٍ، عائماً، هائماً.. فوق سيرورة الزمن الذي نعيش، فراقني أن أقلّده، ثم دخلت اللعبة إيّاها حتى عرفت أن للإبداع زمنه الخاص.. عصياً على المواقيت التي نعرف، عصياً على التماثل والتكرار، وأن كينونة المبدع هي التي تبتكره.. هكذا، بعفو الخاطر، أجعل الكينونة مضافاً إليها، فإذا كان للكائن.. زمنه الشخصي، فإن للمبدع.. زمنه الإبداعي يتوهَّم من خلاله.. خلوده في المعنى.. خلوده في الزمان!.
المبدع يبتكر زمناً وأزمنة.. فيما هو يتشهَّى الزمان!.
سيُقال، أو.. أقول، إن الإبداع يُعنى بسيرورة بشرٍ في زمنٍ وفي أزمنة، ليكثِّفها.. زمن حكاية، زمن.. لوحة، زمن.. مقام موسيقي أو سيمفونية.. هذا ما يحصل بالفعل، ولكن.. على قشرة النصّ، فوق بياض اللوحة، وعلى سلالم النوطات.
تزخر قشرة النصّ.. بأزمنة أفعالٍ وأحلامٍ وخيبات، تتشابك كما «كبكوبة» خيطان جدّتي على نحو ٍ..لا نهائي، ثم إنها في لحظةٍ، قبالة قارئٍ أو ناظر ٍأو مستمعٍ، تجتمع في رأس سهمٍ لتحفر بسؤال الصيرورة هشاشة القشرة بحثاً عن معنى هذا كلّه، وربما عن نقيض المعنى، وعن.. اللايقين!.
هكذا، يكون الزمن.. وتراً عمودياً في إهليلج بيضة الإبداع تلك، والمكان.. وتراً أفقياً، ثم في تقاطعهما، ومن تقاطعهما.. يتشكّل خط بيانيّ شفيف، لا يكاد يُرى بغير عين البصيرة.. فضاؤه.. المعنى، ومكانه.. الزمان!.
والإبداع الذي لا يلمس ذاك الخط الشفيف، وإن لم يمسَّ جوهره، يغدو مجرد «كيمياء».
ثمة مثل هذا الكيمياء في الكتابة في كلّ زمن، وهي اليوم مزدهرة إلى حدود الهلع.. تنجز معادلاتها بمقادير ومعايير، فتنجز أنماطاً.. تتماثل، ثم يُعاد إنتاجها بعد استهلاكها لأنها أسيرة أزمانها تبتلعها سيرورة الزمن، فننسى لتوِّنا بعد قراءتها.. شخصياتها وأفعالها وننسى الأحداث، حتى لكانَّ حبرها.. لا يدوم.
هناك شيء ما خلف كلّ معادلات الكتابة وفقه اللغات ومعايير المدارس والأساليب، لأن الكتابة الإبداعية «خيمياء» يُحوِّل بها المبدع سيرورة كائناته في زمنه.. إلى صيرورةٍ في الزمان، ليستمدّ منها الوجود الإنساني معناه ودلالته.
ثم، ما الإبداع؟!......
كأنما اللـه.. استثنى قصداً بعض أسراره الخالقة، فجعلها في طين آدم، وفي الضلع الذي منه تجلَّت حواء، لتتوهّم سلالتهما الفانية أنها تبتكر خلودها في صيرورة الزمان!.
ولم أك أعرف هذا حين بدأت الكتابة.. تكتبني وأكتبها.. فيما بعد.. صارت الكتابة انعكاس وجودي في مرآة الزمن، كان همّي آنذاك.. أن أضع في ميناء الزمن علامة تدلّ عليَّ، ثم صار همّي أن أثبت بالكتابة من كينونتي فاكتشفها في سيرورة الزمن، فإذا بي أكتشف بغتة.. أن كينونتي سيجرفها الزمن نفسه في إلى النسيان، وأن الإبداع وحده.. سيعبر بي برزخ الزمن إلى أوقيانوس الزمان!... وإلى حلم يشبه الخلود!.
الفئة: مقالاتي | أضاف: negative9558 (10-10-01) | الكاتب: negative9558 E
مشاهده: 880 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]