الرئيسية » مقالات » مقالاتي

عجّقة سير... الأديب والصحفي عاطف صقر
عجّقة سير
 عاطف ابراهيم صقر

 

رغم الكآبة واليأس اللذَين تسببهما فكرة أنني غداً سأهدر يوماً إضافياً في دائرتنا العتيدة، ورغم التهاب العصب الوركي، وترقّق القلب، فإنني أسابق الزمن صباحاً محاولاً الوصول قبل الجميع كي أجلسَ خلف المكتب الوحيد الموجود في غرفتنا، إذ ليس لأحد من الزملاء تراتيبة وظيفية تمنحه أفضلية الجلوس إليه، وكلُّنا (بالهوا سوا)، موجودون على الملاك لكن بلا ملاك وبلا أية تسمية! والسبّاق إلى الكرسي كان عادة يدير جلسة حوار (متيّة) - من متّة - تبدأ بالثرثرة والنمائم، وتستمرّ باحثةً في شؤون الساعة، وهموم العيش، وهموم النسوان! نكرر القصص والنكات والأحاديث ذاتها؛ نتحدث عن المظلومية، وعن ضياع كفاءاتنا ومواهبنا الفذة! نتحدث عن غياب بصيص النور على صعيد المستقبل الوظيفي، نتحدث عن المَتْرِ بمترين، عن كلفة المعيشة، عن دَور الجمعية، عن همّ البكالوريا، عن أيام الشباب، عن كيد النساء، عن جمال الصبايا! عن الناس الذين (طيّشوا) برمشة عين وأصبحوا في العلالي وتركونا على..؟ عن زملاء أعزاء رحلوا إلى بلدان ليس لها عنوان، عن الأيام الغابرة والذكريات الجميلة، والحبيبات الجميلات .. نتحدث عن الماضي السحيق .. السحيق! ذات صباح وفي السباق المحموم للجلوس على الكرسي الدوّار، وبفعلِ فاعلٍ لفعل محذوف يفسره ما بعده! استطاع (أبو اللول) أن يسبق الجميع ويستحوذ على الكرسي، ومن موقعه القيادي المميّز بدأ التنظير، وقبل أن نَصِلَ دارةَ (لمتة)! فاجَأنا بسؤال تعجيزي: ما هي أكثر الظواهر تعبيراً عن حال الأمم؟ وابتدأت الردود؛ الوقوف بالدور! نظافة الشوارع! مستوى التعليم، تصميم المطبات! وضع الكهرباء! نسبة البطالة! ومع كل إجابة كان أبو اللول يرفع حاجبيه بالنفي ومن بين لسانه وسقف حنكه يقول: (تسء)! فتستمرّ التوقّعات: قوّة العملة، حجم الصادرات، تنظيم المدن، الغذاء، الفساد، سيادة القانون، الردع، الأمن، الموسيقى، الدراما، الدبكة، التبولة، الرياضة، تحرُّر المرأة، العلمنة، الرعاية الصحية .. لكن أبا اللول ظل مثابراً على النفي بطريقته الاستفزازية إلى أن أعلنّا جميعاً عجزنا. عندها اعتدل في جلسته وقال بأستذة: عجقة السير! ووسط دهشة الجميع بدأ يشرح: تتعلّق العجقة بدايةً بتنظيم الشوارع وسعتها وجودة تنفيذها، بعدها تأتي كيفية الحصول على شهادة السوق، ثم مسألة القيادة ( فن وذوق وأخلاق)، فإذا فكّرنا قليلاً فإننا سوف نجد أن عجقة السير تضمّ مختلف شرائح المجتمع وكلّه داخل ببعضه البعض، هذا يطحش على ذاك، وذاك يشتم هذا، وآخر يتجاوز الإشارة، وثالث يزمّر باستمرار، ورابع يتوقف بشكل مفاجئ، وخامس يقود باتجاه معاكس، وسادس يدفع المعلوم، وسابع يشفّط، وثامن يزكزك يمنة ويسرة، وتاسع يجرب البفلات الجديدة، وعاشر يركن نسقاً ثانياً وثالثاً .. قاطعه أبو السعود: لكن كل ما ذكرت يقتصر على موضوعٌ واحد! أجاب أبو اللول: بل هو عدّة مواضيع لأننا إذا نَسبنا كل مشارك في (العجقة) إلى مهنته أو صفته لأدركنا أن (عجقة) السير من أكثر الظواهر تعبيراً عن حال الأمم؛ فهي تعبّر عن سلوك شوفيرية العمومي والطنابر والطزطيزات، تعبر عن سلوك الموظف في وظيفته، المدير في مديريته، الأب في أسرته، المدلّل في حارته، المدرّس في مدرسته، التاجر في متجره، الطبيب، المهندس، الرياضي، الفنان، الطلاب، الأثرياء، المقترضون، المدلّلون، أولاد الأصل، أولاد الـ ... وكذا العابرون والدراجون والمصفّرون والسارحون و...؟ يا جماعة: إذا أردتم أن تعرفوا خصائص مجتمع فانزلوا إلى شوارعه! لكن أبا السوس الواقف أمام النافذة أشار بيده وقال: انظروا إنني أرى ظاهرة أهم بكثير من كل ما ذكرتم، اقتربنا جميعنا ومعنا أبو اللول لنشاهد ما يشير إليه فإذا به يقول بمرح: راح جاري عمرت دياري، ثم يسارع للجلوس على الكرسي الدوّار الوحيد الموجود في المكتب!
الفئة: مقالاتي | أضاف: negative9558 (10-09-08) | الكاتب: negative9558 E
مشاهده: 746 | تعليقات: 1 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 1
1 سمر العلي  
0
إنه صراع الكراسي الموسيقية
دمت للإبداع وشكراً على هذا الاختيار الجميل

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]