الرئيسية » مقالات » مقالاتي

كلما حف الريش بالأرض...جون أبدايك/ترجمة:أسامة منزلجي
كلما حف الريش بالأرض
 جون أبدايك/
ترجمة:أسامة منزلجي
 استدار كولدويل، وبينما هو يفعل تلقّى كاحله سهماً مُصوَّباً. انفجر تلاميذ الصف بالضحك. تسلَّق الألم التجويف النحيل لقَصَبَة ساقه، وتغلغلَ في تعقيدات رُكبته، ثم ارتقى، وقد اتّسعَ انتشاره، وأصبح صاعِقاً أكثر، إلى أحشائه. اُجبِرَتْ عيناه على التوجُّه عالياً إلى اللوح الأسود، حيث كتب بالطباشير الرقم 5,000,000,000، وهو العمر المُحتَمَل بالسنوات للكون. شعرَ أنَّ ضحك تلاميذ الصف الذي تدرَّجَ من أول عِواء زاعق من الدهشة إلى النعيب الساخر المتعمَّد، تكاتفَ ضده، وسحق العزلة التي كان في أشد التوق إليها، عزلةٌ يمكنه أنْ يكون فيها وحده مع الألم، يُقدِّر قوّته، وفترة استمراره، ويتفحَّص تركيبه. مدَّ الألم مِجسّه إلى رأسه ونشر أجنحته المُبلّلة على طول جدران بلعومه، حتى أنه شعر، وسط تخبُّطه القُرمزيّ المُفاجئ، كأنه هو نفسه طائر ضخم يستيقظ من نومه، واللوح الأسود، وهو لوحٌ إردوازيّ لَبَنيّ مُلطّخ بآثار غسيل الليلة السابقة، علِقَ بوعيَه كالذكرى. وبدا أنَّ الألم يحلّ بتفرّعاته الدقيقة محلّ قلبه ورئتيه ؛ وبينما قبضته تشدّ على حنجرته شَعرَ بأنه يرفع مخّه كأنه وجبة شهيّة على طبق كبير عالياً ليُبعده عن متناول شخص جائع. كان عددٌ من الصِبية بقمصانهم البرّاقة بألوان قوس قُزح كلها قد نهضوا ووقفوا على مقاعدهم، ينظرون إلى مدرّسهم شذراً ويعوون في وجهه، ويرفعون أحذيتهم المُلطّخة بالطين فوف مِصراع المقعد. وأضحت الفوضى لا تُحتَمَل. عَرّجَ كولدويل وهو يمشي نحو الباب وخرجَ ثم صفعه خلفه مع ضجيجٍ حانق احتفاليّ.
 

 في الردهة الخارجية كان طَرَف ريشة السهم يحفّ بالأرض مع كل خطوة. وامتزج حفيف المعدن مع الخشخشة الجافة بشكلٍ بغيض وبدأتْ معدته تترنّح مع شعورٍ بالغثيان، وتمايلتْ الجدران الطويلة ذات اللون الأصفر الباهت للردهة، وبدتْ أبواب غرفة الدرس، التي أُقحِمَت فيها ألواحٌ مربّعة مُرقّمة من الزجاج المُبرغَل، أشبه بألواح اختبار مغموسة في سائل منشَّط مشحون بأصوات أطفال يغنون بالفرنسية، ينشدون الأناشيد، ويناقشون مشاكل علم الاجتماع. " Avez vous une maison jolie ? Oui, j'ai une maison tres jolie من أجل أمواج القرمز العنبرية، من أجل ممالك الجبل الأرجواني على السهل الخصيب على امتداد تاريخنا نحن الأولاد والبنات (كان ذاك صوت فولوس)، وازدادت الحكومة الفدرالية نفوذاً، وقوة، وسُلطاناً ولكن علينا ألا ننسى، أيها الأولاد والبنات، أننا في الأصل اتّحاد جمهوريات مُستقلّة، فليسبِغ الربُ الواحدُ عليكم نعمته، ويُتوِّج أخياركم بالأخوِّة " – كانت الأغنية الجميلة تتواصل بإصرار أعمى في ذهن كولدويل. " إلى البحر البرّاق ". أغنية قديمة تافهة. سمعها مرة في بيسيك. ومنذ ذلك الحين، أمرٌ غريب أنه أصبح كبيراً ! شعر بنصفه العلويّ كله طافياً في قبة سماء مُرصّعة بالمُثُل العليا وبأصوات طفوليّة تغني ؛ وباقي ذاته كان غائصاً عميقاً في مستنقع، ستغرق فيها تماماً في آخر المطاف. وكلما حفّ الريش على الأرض تحرّك السهم في جرحه. حاول أنْ يمنع تلك الساق من لمس الأرض لكنّ القرقعة الخشنة للحوافر الثلاثة المتبقيّة كانت عالية جداً كانت عالية جداً حتى أنه خشيَ أنْ يُفتَح أحد الأبواب فجأةً ويظهر منه أستاذ آخر ويقف في طريقه. ففي مثل هذه الأزمة يبدو رفاقه من الأساتذة رعاة رعب، يُهددون بإجباره إلى العودة إلى التلاميذ في غرفة الدرس. شعر بتقلُّص ضعيف في أحشائه، وعلى ألواح الكتابة المُلمّعة البرّاقة، أمام خزانة حفظ التذكارات تماماً بما تحتوي من مائة عين فضّية، أودعَ، دون أنْ يتوقف، مخروطاً منتشراً أسود اللون ساخناً. وتلوَّتْ خاصرتاه المُنقّطتان بنقاط رمادية اشمئزازاً، لكنَّ رأسه وجزعه اندفعا إلى الأمام، كتمثال موضوع على مقدّم سفينة تغرق.
حفّزه اللون الأزرق المائي للأبواب الجانبية على التقدُّم. هنا، عند نهاية الرواق، ومن خلال النوافذ المُغلقة من الخارج اتّقاءً للتخريب المُتعمَّد، تسرّبَ الضوء من الخارج إلى المدرسة، ولمّا عجز عن الانتشار في الجو اللزج، البرّاق، ظلّ محجوزاً، كماءٍ تحت الزيت. فوق المدخل. نحو هذه الفقاعة المائلة للزُرقة من الضوء دفعتْ العثّة الكافية داخل كولدويل جسده المُركّب، الوسيم. وتلوّتْ أمعاؤه : لمسَ هوائيّ مُغبرّ سقف حلقه. ولكنه أيضاً تذوَّقَ بلهفة هبّة متوقَّعة من الهواء المُنعش. وأشرقَ المكان بالضياء. فتحَ بقوة الباب المُزدوَج ذا الزجاج المُدعّم بأسلاك خنّ الدجاج. وفي خضم تألّمه، وبينما السهم يضرب على أعمدة الدرابزين الفولاذية، اندفع هابطاً مجموعة الدَرَج القليلة المؤدية إلى المنبسط الإسمنتي. وأثناء هبوطه هذا الدرج كان هناك ولدٌ يخطّ بسرعة بقلم الرصاص كلمة بذيئة على الجدار ذي البريق المُعتِم. قبض كولدويل على العمود النحاسي واندفعَ، وقد ضمّ فمه حتى بات رقيقاً من عزم التصميم تحت عينيه المذعورتين المتوجعتين متوجهاً إلى العراء.
 شكَّلَ منخراه ريشتين من الصقيع. إنه شهر كانون ثاني ز بدت الزُرقة الصافية لقبّة السماء مُفعمة بالقوة ولكنها مُبهمة. وكانت شقّة المرج الجانبي للمدرسة المستوية الشاسعة، الذي حُدِّدتْ زواياه بزراعة أشجار صنوبر، خضراء اللون، على الرغم من أنَّ الوقت هو عزّ الشتاء ؛ لكنّ اللون كان متجمّداً، مشلولاً، لا وظيفياً ومصطنعاً. وبعد أرض المدرسة تهادتْ عربة تروللي في سيرها برفق، تقرقع، متجهة إلى إيلي، تمايلت بخفّة على سكّتها – فالساعة هي الحادية عشرة، والمتسوقون كلهم متوجهون إلى الجهة المعاكسة، إلى آلتون – وهي عملياً خالية، ومقاعد القش تنثر شرراً من الذهب من خلال النوافذ. لقد بدا ألمه، في الخارج، في مواجهة عظمة العراء، خجولاً : تقلّصَ، وتراجع إلى داخل كاحله، وغدا شديداً، حروناً ووضيعاً. تلبَّسَ تعبير وجه كولدويل الجانبي وقاراً ؛ واعتدل كتفاه – الشديدا الضيق بالنسبة إلى مخلوق ضخم مثله – وتقدّمَ، ليس وثباً، بل بتناسُق رزين مُكره بحيث أنَّ العَرَج كان مُستتراً بخطواته. سار على الممشى المرصوف الكائن بين المرج المُتجمد وأرض موقف السيارات المزدحم بها. ولمعَ حاجز القضبان المتشابكة بتأثير أشعة شمس الشتاء تحت بطنه ؛ وكانت الخدوش في الكْروم تُرسِل ألوان قوس قُزح كما الأحجار الكريمة. وبدأ البرد يُقصِّر من أنفاسه. وخلفه في المبنى الضخم القرميدي بلون السلمون للمدرسة الثانوية دوى رنين جرسٍ كهربائيّ مُعلناً انتهاء الدرس الذي تخلّى عنه. ودبّتْ حركة في الصفوف مع دمدمة كسول.
 كان مرآب هَمِل مُجاوراً أرض مدرسة أولنغر الثانوية، يفصل بينهما نهرٌ إسفلتيّ صغير غير مستقرّ. ولم تكن صِلته بالمدرسة مجرد صِلة الجوار المكانيّ. فقد كان يعمل في هيئة التدريس، وإنْ لم يعُد كذلك الآن، وزوجته الشابة ذات الشعر الأحمر، فيرا، كانت مُدرّبة الألعاب الرياضية للفتيات. والمرأب ينتفع كثيراً مادياً من المدرسة الثانوية. فالفتيان يأتون بسياراتهم العتيقة البالية المُهمَلة إلى هنا لإصلاحها، والصِبية الصِغار ينفخون كرات لعبة السلة بالهواء المضغوط. وفي الجزء الأمامي من المبنى، في الغرفة الكبيرة التي يحتفظ فيها هَمل بحساباته وبمكتبته المُهلهلة المُلطّخة بالسواد التي تحتوي فهارس قطع الغيار ومقعدَين خشبيِّين متجاورَين يتحمّل كل منهما مجموعة متآكلة من الأوراق، وكميات من الورق، ومحاور مغزلية غرزت فيها وحتى أطرافها الصدِئة أكوامٌ رقيقة من الإيصالات القرنفلية اللون، هنا كان يوجد صندوق زجاجي مُعرَّق، قمّته المشروخة مُلصقة بشريط على شكل البرق من مطاط الإطارات، يحتوي قطعاً من الحلوى ملفوفة بورقٍ يُطقطق تنتظر البنسات من الأطفال. هنا، كان الأساتذة من الذكور يجلسون أحياناً – في الأيام الغابرة أكثر مما يفعلون حديثاً – عند الظهيرة – على صفٍ قصير من الكراسي القابلة للطيّ المُزيّتة تُشرف على حُفرة إسمنتية مساحتها خمسة أقدام تقع أرضها على مستوى واحد مع الزقاق الخارجي – يدخّنون ويأكلون الحلوى المتنوعة ويمتصون أقراص معالجة السعال ثم يضعون أقدامهم ذات الأحذية المشدودة الأربطة والمُلمّعة على الدرابزين ويُرخون أعصابهم الشهيرة في الوقت الذي تُغسَل فيه سيارة أشبه بوليد ضخم معدني، في الحفرة السُفلية ذات الأبعاد الثلاثة، ويجري رجال هَمل السُمر عليها التغييرات.
********************
 الفصل الأول من رواية "القنطور"
 المصدر : موقع اوكسجين
الفئة: مقالاتي | أضاف: negative9558 (10-08-16) | الكاتب: negative9558 E
مشاهده: 872 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]