الرئيسية » مقالات » مقالاتي

خشب علىٍ خشب... الناقد المسرحي أحمد قشقارة

وكان الخشب يومها موجعا .... آه ..كم كان الخشب موجعا, خاصة في أيام الشتاء الباردة ... وحين يكون جرم أحدنا شنيعا كالهروب من المدرسة مثلا, فإنه لابد أن يلاقي حسابه في اليوم التالي وعلى مرأى من جميع التلاميذ الذين اصطفوا في الباحة منهم الشامت ومنهم الخائف وكانت العقوبة : ( فلقة ) على رجليه بعصا ـ كنا نراها غليظة حتى لو لم تكن كذلك ـ وكان الـ (مجرم) المسكين يفضل تلقي الضربات على قدمين حافيتين تماما على أن يبقى مرتديا جواربه .. كان يرى أن التضحية بتحمل جرعة إضافية من أوجاع القدمين أهون عليه بألف مرة من تحمل وجع الكرامة والشعور بالذل والهوان لو بقي بجواربه الممزقة أمام هذا الحشد الهائل من التلاميذ الذين لم تنفضح بعد حقيقة جواربهم في موقف مشابه ربما يتعرضون لمثله لاحقا .. الله أعلم .. لا أحد يضمن .. وكانت العصا حينها أيضا من خشب .. كرهنا الخشب .. بل لعلنا يوم ذاك قد حقدنا عليه .. في الحارة .. كان الدكنجي أبو سميرة يعرض بضاعته على بسطة من خشب .. كان يضع عليها البندورة الرخيصة والبطاطا والفجل و ... أما الموز فالشهادة لله لم يكن يوضع كبقية أقرانه من الخضار على الخشب , ربما لأنه مدلل وإبن خلق وعالم .. أو رما لأنه ليس خضار بل فاكهة , فكان من الواجب حتما احترام هذا الأصفر الأرستوقراطي وتعليقه في مكان يليق به في صدر الدكان .. كان الموز عاليا شامخا في تلك الأيام يرفض القعدة على الخشب ... أما في هذه الأيام .. فيا حسرتاه على الموز الذي لم يعد له تلك الهيبة والوقار كأيام زمان .. خاصة بعد أن مات الدكنجي أبو سميرة .. وبني فوق أنقاض دكانه سوبر ماركت يبيع الكيوي والمانجا والأناناس .. صار الموز يوضع على الخشب ... كانت أمي تعطيني ليرة وفرنك .. أي مائة وخمسة قروش لأشتري تلاتة كيلو خبز من فرن أبو اصطيف ... كان سعر الكيلو سبع فرنكات .. ولم يكن الحصول على الفرنكات السبعة بالأمر السهل .. لكن الخبز أيام زمان كان طيبا .. يا ألله كم كان طيبا !!! كنت أذهب للفرن وأرى قطع العجين مصفوفة على ألواح من خشب .. منها من يدخل النار .. ومنها من ينتظر .. وكان الفران يخرج الأرغفة الناضجة بسهم من خشب ويضعها أيضا على خشب ريثما تبرد وتذهب لبطون الجياع ... ويمضي بنا الخشب .. خشب على خشب .. نكبر .. ويكبر فينا الخشب .. ويحيط بنا الخشب من كل جانب .. ويسكننا الخشب .. أحلام على خشب .. وآمال على خشب .. هجرة على مركب من خشب .. أو مكتب فخم من خشب .. ندندن الأغنيات الحزينة على عود من خشب ... ونرسم صور الأحبة على شقفة من خشب .. ونصنع لشهاداتنا العلمية ـ الحقيقية منها والمزورة ـ ببراويز من خشب .. ونلقي محاضراتنا على منابر من خشب .. ونمثل تراجيدياتنا على منصة من خشب خشب على خشب ..... خشب ... خشب .. خشب ... وأسأل نفسي , لماذا سميت خشبة المسرح : خشبة ...!! هل لأنها فقط صنعت من خشب ؟! أم لأن عيدان الثقاب وقبضة الخنجر والصلبان ومغتسلات الموتى وحصان طروادة وطواحين الهواء .... والتوابيت أيضا من خشب ؟!!!

الفئة: مقالاتي | أضاف: negative9558 (10-07-08) | الكاتب: مجد يونس أحمد E
مشاهده: 545 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]